زمان فى الثمانيات حكى لي صديق تجربته الأولى في عالم الرجولة… (يعجبني فهمكم) .. نقصد خطوته الأولى في الإعتماد على الذات وفق أدبيات التربية في المجتمع الحر السعيد حينذاك حيث أراد أن يتحصل على حذاء لنفسه من الأسواق الشعبية دون الإعتماد على أبيه…مش مشكلة الفلوس مع قلتها ..المشكلة في التكيف مع أخد حقك وحاجتك بطريقة مهينة وعنيفة جسديا وروحيا كان يقوم بها أباك ليجنبك تلك المهانات والتشويه النفسي الممنهج ..طبعا مش حيفهمني اللي بوه وعمه من الضباط الوحدوين الأحرار اللي كان يرتدي كندرة غوتشي ويمتطي الجى تى اى والبيبي إم اضافة لامتطائه ظهور الحقراء.
المهم.. يحكي كيف تحصل على معلومة يتم تداولها بسرية في المنطقة أن السوق الشعبي جايبين كنادر وبيفرقوها غدوة.. فاق الصبح بكري ومر على السنفاز (تلك المهنة التى يتخدها القائد فى خطبه هزؤوا).. خدى سنفزة بالدحى أو ما يريده الرجال صباحا…ثم انطلق في طريقه إلى السوق المجمع متحفزا إلى قتال وقد لاحظ أنه كلما اقترب من المكان كانت الجماهير تزحف حثيثا نحو انعتاقها، وعند المنعطف الأخير نحو السوق قبل أن يراه كانت رائحة الجماهير بعبقها الخالد دون مزيلات عرق تصل اليه قبل أن يراها ليعلم أنه قد أتى متأخرا وقد سبقه الشعب إلى السوق يقفلون عليه منافذ الباب من جميع الجهات… أَنَّى له باختراق تلك الجموع ليكون أول الداخلين وهو حديث العهد بفلسفة رجب أبودبوس ..ذلك أنه فى حالة السوق المجمع يعتبر مدى قربك من الباب والدخول فى الدفعة الأولى هى الخطوة الأولى فى الاستراتيجية العامة لما سيحدث فيما بعد…إلا أن ذلك لم يثبط عزيمته خاصة أنه أعلن بالأمس للجميع بأنه سيذهب لإثبات رجولته من خلال الحصول على كندرته.
اختار أقل الشرائح سمكا وبدأ يخترق الجموع رويدا رويدا معتمدا على ارادة وقوة شبابه الذى بدأ يفنيه في التدرب على السلاح والوقوف في طوابير أخرى لا نهائية ومنها طابور الحصول على التأشيرة الليبية للسفر خارجا ليطلع سريعا كيف يعيش أترابه فى الدول التى لايحكمها متغلب وليثمن عاليا قيمة الفردوس الأرضي في الجماهيرية.
صعدت الشمس الى السماء وبدأ قيظ الصباح واختلطت الروائح ولم يفتح باب السوق بعد, رغم رؤيتهم للموظفين بالداخل متكاسلين بعد أن حجزوا لأنفسهم البضائع وقاموا بالصفقات وفق معيار كل قدير وقدره.. فشفافية النظام كانت تسمح للجماهير برؤية ما يحدث بالداخل من خلال الزجاج وان كان ضبابيا مغمشا بسبب لزوجة أثار أكفف الجماهير وأنفاسها ولهاث حرام الصفقات، تلك اللزوجة تظل وان كان السوق خاويا بسبب كثافتها كأنها لاتفنى ولا تستحدث..
كانت الجماهير المنتظرة تراقب بحسد الموظفين بالداخل وهم يمارسون سادية غريبة تجاههم وفي نفس الوقت يتألمون ولايشعرون بسياط المتغلب تجلد ظهورهم عبر رجال الأمن والجيش لتنظيمهم في طوابير عبثية صنعها هو وهنا ينتهي الفصل السياسي من الكتاب الاخضر.
وبعد أن مارس الجميع ساديته ومازوخيته فتح الباب أخيراً ليبداء الفصل الاقتصادي ..اجري بقدر المستطاع ولا تأبه لعجوز أو طفل تدوسه تحت أقدامك من أجل الوصول الى الأرفف..خذ أي عدد من باكوات الكنادر يمكن أن تحمله يداك أو تذود عنه..لا يهم النوع رجالي نسائي أطفال ولا المقاس ولا الشكل… وبعد أن تحوز البضاعة يجب المحافظة عليها فسيأتيك بعض المواطنين والبلطجية ورجال الأمن محاولين افتكاكها منك بحجة انك لن تدفع إلا مقابل قطعة واحدة..وهذا صحيح …لكن لازم تدير هكى لتحسن وضعك التفاوضى في الحصول على كندرتك التي ستختارها من الكنادر التي حازها غيرك من حيث النوع والشكل والرقم ..وحتى لو حصلت اللي تبيه فيمكنك استعمال باقي الكنادر كهبة وجميل منك للمعارف أو تعطيها رضوخا لأحد بلطجية المنطقة وجميعها تصب في باب توسيع العلاقات وتأمين الشر والإستفادة مستقبلا.
المهم.. صاحبنا حصل أفضل المتاح ووقف في طابور المهانة وخلص كندرته وطلع وهنا يبدأ الفصل الإجتماعي…يحكي لي عن شعوره بالرضا على نفسه أكثر من فرحته بالحصول على كندرته التي قسمها له القايد ونجاحه في تحقيق هدفه ولا تكاد الأرض تحمله وهو مروح لشارعهم والى أهله يتمطى… لكن.. وهو ليس ببعيد عن السوق في طريقه الى البيت رأى مجموعة زعران يقفون عند الانقولو وأشاروا له بدون حتى كلام..”تعالى تعالى”..طبعا مافيش كيف يهرب اما لعزة النفس لم يفقدها بعد أو لعدم جدوى الهروب في شارع محدود يملكوه صغار الشارع، وحتى لو هرب حيمسكه أي حد من باب مؤازرة صغار الشارع لبعض…المهم ذهب لهم بأخر جرعة كبرياء يمكن أن يستجمعها ..قالوا له “تره نشوفوا” ..مد الباكو. فتحوه…عجبتهم…غطوا الباكو وشافوله وقالوله ..روح…وطبعا روح.
صاحبى هذا وبعد سنوات طويلة وبعد ما برى منها يحكى فيها ويضحك على شعور انتابه وكل ما نتفكرها نضحك.. قالى يا أسامة تعرف شعورى شنو وأنا مروح؟.قلت له شنو ..قال “تغمرنى شعور جارف بأنى مسامح الناس كلهم ونحبهم كلهم”.
نضحكوا عليها لتوا لأنه شعوره غير قابل للتفسير إلا من باب الدفاع النفسي الناتج عن العجز وأنه العيب على صاحب العقل وأفضل دفاع كاذب تقنع به نفسك وقتها أنك متسامي وعالى عن سفاسف القوم ووو.. لكن الحقيقة المرة هي الهوان.
الفصول الثلاثة كانت كافية لاستلاب عدد كبير من الناس لم يعودوا يؤمنوا حتى بإنسانيتهم ولا كرامتهم ولا حريتهم كما خلقهم الله، وإن أمان الخنوع والذل مقبول تماما مقابل المصالح مهما كانت رخيصة فهي لديهم أغلى من انسانيته التي لم يعد يتذكرها.
صاحبى هذا مع أنه أصبح تاجر جملة كبير للأحذية ويستطيع أن يوفر كندرة من المهد إلى اللحد لصغار شارعهم وسكان المنطقة…إلا أنه عند ما قامت الثورة على الجماهيرية لم يأبه لمصالحه وثروته التى من المؤكد انها تأثرت فى أعقابها ..لماذا؟ ..لأنه يؤمن بكرامة وحرية ابنه كإنسان التي تكمن في أنه لو بقى حفيان أو لبس غوتشى فبإرادته وحريته فقط.
صعبة على هلبا ناس.
اسامة بالاشهر Osama Ben Al Ashher