ثورة رومانيا…سقوط دكتاتور وبناء دولة بخيار التسامح لا الإنتقام

[post-views]
90

بوابة ليبيا الاخباري 

في حمّى شرق أوربية عارمة وغير مألوفة لتغيير الأنظمة وللإنعتاق من قبضة الشمول الشيوعي،هاج الرومانيون مرّة كما غيرهم من بلغاريا وألمانيا الشرقية وبولندا وتشيكوسلوفاكيا،في آخر الثمانينيّات وماجوا بعد عقودٍ من الكبت والخوف والحاجة،ليقلبوا عرش رئيسهم نيكولاي تشاوتشيسكو وزوجته في إنتفاضة شعبية وُجهت بالبنادق الحكومية.

عم الهيجان أنحاء رومانيا وشاع وإنتشر،حتى أيقن تشاوتشيسكو أن الرحيل من الحكمة،فهرب خارج بوخارست مع زوجته في طائرة عمودية طافت بهما من على سطح القصر الحكومي،وحطّت بعيداً في ضاحية ريفية بالقرب من حظيرة خنازير،إستقلّا منها سيارة أجرة،حتى قُبِضَ فيها عليهما وهما فارّين مرتعبين مذهولين يرتجفان من البرد والخوف في تلك السيارة المتهالكة،أو كما أراد ثوار بوخارست إظهارهما ذليلين في روايةٍ ملفَّقة عندما أعلنوا أن الطاغية وزوجته وُجدا مختبئان في كومة من القش والروث على عادة المنتشين بسُكرِ الثورات من حملة الميكروفونات والشعارات الرخيصة في الشاشات والمنصّات وميادين الصخب والزعيق .

جُلِب تشاوتشيسكو وجُلبت زوجته إلينا تشاوتشيسكو إلى بوخارست كتيسين مُكبّلين للذبح،وأُوقفا في غرفة صغيرة باردة معتمة رطبة بها طبعٌ من الزنازين،حيث أُقيمت محاكمة ساخنة سريعة لهما مدّتها ساعتان،لم يسعف فيها جأش تشاوشيسكو نفسه حتى على تهجّي إسمه أو أن يطلب محامياً أو أن يُوقف تسارع أنفاسه أو يخفي سُحنة الخوف التي فاضت على وجهه وزمّت شفتيه وألزمت عينيه بالزغللة،ليجد نفسه مع زوجته التي لم تستطع إستيعاب ما يجري،بعد نطق مستعجل بالحكم،يواجهان مأسورة بندقية إستعجل حاملها بإفراغ تسع رصاصات في صدريهما يوم عيد الميلاد في25 ديسمبر،ليخرّا التيسان صريعين أمام كاميرا رخيصة وثّقت مشهداً ثميناً أرعب الكثيرين وإن لم يتّعظوا ويعتبروا.

تلقّف الرومانيون رومانيا من طغمة تشاوتشيسكو بعد نحره وذلك بالنائ بعيداً عن البارود ولعلعة البنادق وقرّروا الإحتكام إلى إنتخابات عامة ،جنّبوا فيها رومانيا بعد فترة وجيزة بدعة المراحل الإنتقالية وضلالة المجالس المؤقتة أو الإنصات إلى وشوشة السفارات،ولم تمتدّ سواعد مُثقلة بالبنادق إلى مذّخرات وأملاك تشاوتشيسكو ولا إلى خزائن المصرف المركزي،أو مذّخرات وجواهر وطواقم صفرة اِلينا،ولم تظهر فئة ولو واحدة مِمّن خرجت إلى الميادين لتدّعي فضل التحرير والتخليص أو طالبت بمزايا ومناصب أو ورثت ديكتاتورية تشاوتشيسكو،أو أحرقت ولو كومة قشٍّ أو حطّمت مقعداً خشبياً في حديقة عامة أو مشّطت كأس نبيذٍ لشاوشيسكو ولا تبادلت الأنخاب في مهجعه،ولم يصرخ عامل مناجم بالوعيد أمام بيت الشعب ( بوخارست يا حفرة الدم / جاك الخلاء يا تيميشوارا ).

تعدّت رومانيا جميع الحواجز بلا أخطاء وإنتخب الرومانيون رئيساً ومجلساً تشريعياً ومن ثم إنفضّوا إلى المناجل والمطارق والآلات والأقلام ،ووقفوا خلف التروس لا المتاريس،ولم يُشغلوا أنفسهم بسيرة تشاوتشيسكو وأعوانه وما ملكت أيمانه وحاشيته،وماذا كان يلبس أو يضع بين أضراسه،ولم يأخذهم قسيسٌ إلى بركةِ دمّ،أو تراودهم سفارة عن بلادهم بسيارة قمامة أو حاوية حفّاظات. 

حفر الرومانيون عن رومانيا الموؤدة وردموا جثّة تشاوتشيسكو مع أفعاله ونفضوا سنوات القهر من ذاكرتهم الشعبية وإنتصروا لخيار التسامح لا خيار القصاص وثأر قبائل القرون الوسطى. 

وإنتصرت رومانيا…

ماذا لو نهب الرومانيون البنادق وأقاموا المتاريس وطافوا بالمباخر في حضرة الآبالسة المناجيس ؟
ماذا لو بقت فئة منهم أخرى تستحلب الدموع وتبكي أمجاد نيكولاي ؟
ماذا لو إنشغلوا بالنهب والتزوير والإختلاس والتهريب والحرابة والخطف ؟
ماذا لو راكموا الحكومات والمجالس وفرّخوا العواصم ؟
ماذا لو تركوا كلَّ رومانيا وتدافعوا نحو شريط ضيّق يحادي البحر الأسود ؟
ماذا لو طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد وإستولدوا بينهم مصيبة وجهنم ؟


بقلم:كابتن طيار مصطفى العدولي

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.