كلام عن مدينة درنة (1):

[post-views]
219

 

في زمن الحرب يتعرض ألمع الناس ذكاء لأعنف أنواع التضليل. ذلك أن الكثير من الانطباعات الإعلامية المتداخلة والمزدحمة تنزلق به إلى قبول ثقافة الانتهاك، وتعمّق شعور المرارة والانتقام لديه، بقدر ما تُسطِّح القيم الإنسانية التي يحملها. فيكون سؤالي موجّهًا إلى الإنسان الذي أراهن على أخلاق العقل التي اكتسبها في زمن السلم: ما المغزى من مُحاربة الإرهابيين، عندما تتحوَّل إلى إرهابي مثلهم؟

أي معنى يبقى لديك من معاني الإنسانية التي تقاوم الأحكام المطلقة للتسلط الديني والعقائدي، وأنت تضع مدينة قوامها مئة ألف نسمة تحت حكم اعتقاد واحد، لا يتردد في وسم مدينة كاملة بالإرهاب؟

هي أسئلة في سلسلة طويلة ومتماسكة من الخيبات والغدر الذي تعرضه له المدينيين والمدنيين في مدينة درنة، حاولت كتابة تفاصيلها بما منحته لي الذاكرة. فقد كنت حاضرًا مع أحداثها التي عايشتها حتى تفجير بيتي في 14 ديسمبر 2013. وبقيت هناك حتى خروجي منها يوم 29 أكتوبر 2014. وسأحاول من خلال كتابة هذه الأجزاء معالجة تلك الانطباعات المزدحمة عن المدينة.

تبدو إحدى أهم خصائص وفرائد المدن قابليتها لإقامة المشاريع الفكرية المختلفة، أكانت دينية أم عَلمانية على حد سواء، ولهذا لا يعود من الغريب فهم أسباب نجاح التنظيمات الإرهابية داخل مدن مثل بنغازي ودرنة، فالجغرافيات التي تحكمها التركيبات القبلية ترفض المشاريع الطارئة التي تهدد سلطة القبيلة، سواء كانت مشاريع عَلمانية سياسية، أو دينية سياسية على حد سواء. 

في منتصف عام 2012 افتتحت أول “محكمة شرعية” في مدينة درنة، وكان مؤسس الفكرة “مجدي الحوات” أو “مجدي قسورة” كما يُكنَّى؛ القادم من شحّات حينذاك. رفض القضاة الدراونة العمل في تلك المحكمة الإسلامية، ثم تعالت الأصوات الإعلامية الرافضة لهذه الفكرة التي ظهرت مثل العفريت في وجه الحلم الدرناوي المدني. وأذكر أنني اتصلت بأحد المسؤولين في “شحّات” لاستفساره عن تلك الشخصية الإرهابية التي تسرح وتمرح عندنا في درنة، فطلب مني بعض الوقت، حتى يتسنى له الحصول على بعض التوضيحات. ولكن، بعد ذلك الاتصال الوحيد، قرر ذلك الصديق عدم الرد على اتصالاتي واستفساراتي. في المقابل، لم يكن أمامي إلا تقدير خوفه على حياته، فقد كان قسورة آنذاك أحد الخطوط الحمراء. 

تشكل وعي مبكّر لدى أهل درنة تجاه خطر فوضى السلاح وانتشار الميليشيات السلفية الجهادية في كل أنحاء البلاد. وذلك ما جعلهم يسبقون الجميع، ويخرجون في مظاهرة حاشدة ضد كتيبة بوسليم الإسلامية في 21 من سبتمبر 2012 عندما كانت كل الكتائب المسلحة الأخرى في بنغازي والبيضاء وطرابلس تحت غطاء شرعية المؤتمر الوطني، بل وتحت غطاء شعبي من النَّاس.

كنت من بين المشاركين في تلك المظاهرة، ولا زلت أذكر اسم الشاب المدني الذي كان صاحب مبادرة الدخول على معسكرهم في الساحل، إلا أنني أتحفظ على ذكر اسمه، لأنه لم يغادر درنة حتى هذه اللحظة.

بعد ذلك الحراك الرافض لوجود السلاح خارج سلطة الدولة “الغائبة” توالت المظاهرات المطالبة بنزول الأجهزة الأمنية وأفرادها الذين لم يتورطوا في قتال الليبيين. ولكن، خذل الجميع الجميع، ولم ينزل أحد، ولم نشهد أية مبادرة من أفراد الأمن، وذهبت كل النداءات أدراج الرياح.
وفِي عهد حكومة “علي زيدان” كان لي شرف المشاركة في المظاهرة الشهيرة التي تمكن خلالها أهل درنة من طرد الإرهابيين على اختلاف أسمائهم من كامل المدينة. ففي المساء الأول للمظاهرة المطالبة برفض الاغتيالات وإخراج الإرهابيين من المدينة، جاءني في البيت رفيقي الراحل “عامر هابيل” الذي اغتاله الرصاص المُلثّم، حيث أكد لي أن المظاهرة ستنجح رغم موجة الرعب والاغتيال، وأن الناس ستلتحم بنا بمجرد رؤيتهم لأول مسيرة راجلة.

كانت توقعاته في محلها، فخلال زمن وجيز اجتمع حشد لا بأس به من الناس. انطلقنا حتى وصلنا بالقرب من “جامع مصعب ابن عُمير” الذي كان قِبلة للمتطرفين. فبدأت الرماية بالرصاص الحي على المتظاهرين من سيارة الإرهابي الشهير “مراد السبع الحاسي” الذي نجح في تفريق المتظاهرين، بمساعدة رفيق السلاح والإرهاب “رمضان الميار الحاسي” الذي كان المسؤول عن إيقاف العملية الانتخابية إبّان انتخابات مجلس النواب. 

رغم ذلك استمرت المظاهرة في الخروج كل يوم، حتى شهد رابع يوم فيها خروج المدينة بأكملها. وانطلق المتظاهرون إلى غرب المدينة، حيث كان أنصار الشريعة يقيمون معسكراتهم التدريبية. كانت كل المقرات والسجون والمباني خالية تماما، باستثناء بعض الملابس وكتب محمد عبدالوهاب وأبوبكر الجزائري وابن تيمية، التي احتفظت بجزء منها.

لقد اختفى جميع الإرهابيين فجأة، ولجأ بعضهم إلى المناطق المتاخمة. وخلال ذلك الأسبوع الملحمي الحافل وعدنا علي زيدان بدخول جيش نظامي لمدينة درنة، ولا زلنا ننتظر تحقق وعد زيدان حتى هذا اليوم.

استمرت المدينة في عصيانها المدني لمدة أسبوعين كاملين، إلا أنها كانت وحدها بالمعنى المخيف للكلمة، ذلك أنه لم يصلها أي نوع من أنواع الدعم من المدن الأخرى. كأن الجميع متواطئ فيما سيحدث لاحقا. أصبحت عودة الميلشيات الإسلامية أمرا لا فرار منه، غير أن تلك العودة ستكون مشفوعة بأقسى أساليب الانتقام والتنكيل….


الكاتب الليبي: خليل الحاسي

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.