هل أصـبـحـت بــنــغــازي حـفـرة الإنـتـقـام بـيـن داعــش و.. دال ؟

[post-views]
24

هـل أصـبـحـت بــنــغــازي حـفـرة الانـتـقـام بـيـن داعــش و.. دال ؟
………………………………………………………………..
الإرهاب المجرم المستهدف للمساجد في بــنــغــازي المتزايد والمتمادي، يفرض على أصحاب العقول المعرفية المتحررة من قيود الغوغائية والديماغوجية، والمتجردة من الغوايات الآيديولوجية والسياسية، والباحثة في ظواهر الأخبار والتدافع عن بواطن الأسرار والدوافع، أن يقرأوا بتمعنٍ ورويّة ما لا يقرأه المتعجلون، وما لا يستطيع تفسيره المفجوعون والموجوعون.

في ظاهر القول أو الأقوال / إن قوى التطرف الداعشي الشوروي الإسلاموي، التي هزمتها الكرامة وسحقتها في بؤرة سيطرتها السابقة مدينة بــنــغــازي، تنتقم من المدينة وأهلها أبشع انتقام بأبشع الوسائل التفجيرات الإرهابية، مستفيدةً من حالة الفوضى الإدارية والأمنية والفراغ القيادي المدني والأمني، ومستقويةً بالتنازع السياسي الحاد بين مؤسسات السلطة المتشظية الفاشلة الفاسدة، المتصارعة المتآمرة على بعضها البعض، في حروبها القذرة المدفوعة سياسياً من العواصم، والمدفوع لها مالياً من أموال الليبيين المنهوبة بكل الوسائل، وهذا في مجمله صحيح، مع استبعاد نسبةٍ لا بأس بها من نظرية الــمــؤامــرة، التي يلجأ إليها الفاشلون في بــنــغــازي ذاتها من عناصر السلطات النيابية والحكومية والمحلية والإعلامية والأمنية وحتى العسكرية، في تفسير فشلهم وتبرير عجزهم، والذين لو قاموا بما عليهم من واجبات لكانت الأمور على الأقل أقل سوءً أمنياً ومعيشياً ومعنوياً إن لم تكن أفضل، ولو كان لديهم جميعهم أدنى مصداقية وموقفية لما قبلوا ببقاء المقاول الفاشل عبدالله الثني رئيساً لحكومة الأمر الواقع في برقة، يفعل ما يشاء كما يشاء دون حسيب ولا رقيب، ولا اعتراض لا من المشير ولا من المستشار.

إن انكشاف بــنــغــازي بالذات على كل النوازع الإجرامية والإرهابية سيستمر للأسف، وهو ليس منفصلاً على الإطلاق عن الانكشاف الوطني الشامل أمام الإرهاب الأسود، الذي يضرب متى يريد لا متى يستطيع، فهو يستطيع في كل وقت أن يضرب مثلما سبق وضرب في كل مكان على امتداد خارطة الكيان الليبي المتفسخ، في ظل موت الدولة، وانعدام السلطة، وغياب الشعب، وغيبوبة النُخب، ولا مبالاة الأمم المتحدة ومبعوثها الفيلسوف، عدا أن الإرهاب الذي يضربنا ويقتلنا ليس فقط إرهاب داعش الهاربة ظاهرياً من بنغازي وسرت، والمتمركزة فعلياً في وديان جنوب الساحل وفزان الكبرى، والقاعدة المتمترسة في درنة متخذة وديانها قواعد وأهلها رهائن، والمتواجدة نظائرها وروافدها في بعض ضواحي طرابلس والمدن القريبة منها، بل إن الإرهاب المجرم يشمل الميليشيات المنفلتة، التي تقتل الناس الأبرياء متى غضبت أو انتشت أو تنازعت على مقر أو سجن أو مصرف، والتي تتبادل المساندة والدعم مع شخوص سلطة الأمر الواقع الفاشلة الفاسدة، وفق قاعدة الحماية الأمنية مقابل التغطية الرسمية الشكلية والمالية، والعصاباتُ المجرمة التي أخطرها عصابات تهريب الوقود والمخدرات ومغيبات العقل الهلوسية، والتماسيح الكبيرة التي ابتلعت كنوز المال دون رحمة وعاقبت الليبيين بالإفقار والقهر والطوابير دون ذنبٍ ولا جريرة.

أعود بعد هذه السباحة المضطربة في بحر الدم الليبي الحرام، المهدور على أعتاب وبأيدي الأذناب وأولاد الحرام، إلى أصل الفكرة المشار إليها في العنوان الموسوم [هل أصبحت بــنــغــازي حفرة الانتقام بين داعش و – دال]، ليس استهانةً بما سلف تعديده في هذه المقالة من دوافع وخلفيات وأسباب لما تعانيه بــنــغــازي الحبيبة من عناءٍ المعاناة وعذاب الإرهاب، بل إضافةً إليه ومحاولةً للمساهمة عبر التفكير في التفسير الذي يتجاوز التعبير ولا يعترف بالتبرير.

من المعروف أن الحرب بين قوى الإسلام السياسي التي سرقت كلمة الثورة ووصف الثوار، وسيطرت على بنغازي ضمن سيطرتها على كل لـــيـبـيـــا بعد انتهاء حرب الناتو، التي استغلت انتفاضة فبراير لإسقاط نظام سبتمبر وقتل معمر القذافي، وبين القوى المدنية والمجتمعية في كل برقة التي التحمت بعملية الكرامة في حربٍ ضروس ضارية دامت أكثر من ثلاث سنين {وبشكل أكثر دقة دامت 40 شهرا}، بعدما بلغ الزبى سيل الاغتيالات والطغيان الثورجي الإسلاموي، المدعوم علناً من ثلاثي الدوحة اسطنبول الخرطوم، وما كان لمدينة العنفوان وعنوان الرفض والعناد بــنــغــازي أن تحتمله فوق ما احتملته، هي حربٌ ذات طبيعة تأويلية دينية، أو أصبحت كذلك ليس من أساسها وبداياتها، بل منذ اعتبرتها قوى المتأسلمين في غرب لـــيـبـيـــا وزعيهما الروحي [الدكتور الصادق الغرياني] جهاداً ضد القوى الباغية، متمثلةً حسب رأيها في اللواء خليفة حفتر ومن يقاتل معه، ضد من أسمتهم بعد أسابيع من بداية الاقتتال مجلس شورى ثوار بــنــغــازي، مبتعدةً وفق منهج التقية المراوغ الذي تؤمن وتعمل به عن إطلاق إسم مجاهدي بــنــغــازي، مخالفة ظاهرياً للتسمية القاعدية الظواهرية المباشرة والواضحة في درنة، وبدأت تحشد {المجاهدين – حسب وصفها} عبر وسائل إعلامها خاصة تلفزيونات النبأ والتناصح ووسائط الاتصال ومنصات التواصل الاجتماعي، ومنابر المساجد التي تسيطر عليها خاصة في طرابلس ومصراتة وسرت وغريان والزاوية ومسلاتة ومناطق أخرى، وتتلقى الدعم الخارجي العسكري والمالي واللوجستي المباشر عبر المطارات والموانيء، وترسله عبر البحر حيث يسيطر تنظيم الإخوان المنخرط في الصراع الدموي أو آخر معارك البقاء العنيف بالنسبة له، على ميناء الحديد والصلب بمصراتة، وتسيطر قوى إسلاموية أخرى على موانيء أخرى، وعبر البر حيث يسيطر ابراهيم الجظران وعصاباته على الطريق من سرت إلى اجدابيا وعبر طريق النهر الصناعي والمسارب الصحراوية من مشارف الوادي الحمر حتى الوادي الفارغ وصولاً إلى جنوب بنغازي.

وفي هذا المناخ الملتهب المستعر، ومع اشتداد الصراع بين أقطاب التنازع القطبي العربي الإسلاموي ممثلاً في محور قطر وخادمتها السودان وحارستهما تركيا، يقابلها محور الإمارات وآمرتها السعودية ومخزنها المصري، ولتكون الحرب في بــنــغــازي وعلى بــنــغــازي ساحة الصراع المستعر والمستمر، ليستمر الخليجيون في تبادل الزيارات وتقبيل اللحى والتهام الولائم، وليستمر قطار الموت في أخذ الليبيين إلى المقابر، ومن فاته القطار ركب البر والبحر إلى منافي الخارج الدافئة المترفة بالنسبة للأغنياء المتبطرين لصوص فبراير، وإلى ملاجيء القهر والفقر عند أهلهم الذين لا يريدونهم وأرحامهم الذين لا يتراحمونهم بالنسبة للفقراء ومتوسطي الحال أطفالاً ونساءً ورجال.
في هذا المناخ التعبوي الذي تحالف فيه بقايا الثوار المدنيين غير المتدينين، تحالف الضرورة أو الخديعة مع المتشددين الإسلامويين بدايةً من تنظيم أنصار الشريعة القاعدي وصولاً إلى تنظيم داعش الأشد دموية، ومع اشتداد الاستقطاب واستفحال تطرف الخطاب عند الطرف المضاد، وجد قائد معركة الكرامة ومن معه أنفسهم يبحثون بلهفة قدر بحثهم عن الدعم والمدد المادي، عن دعم معنوي ديني أو على وجه الدقة تأويلي عقائدي، وقد استعر القتال وبلغت القلوب الحناجر، وازدادت الحاجة إلى تأويل ديني يحفظ تماسك الوسط المجتمعي المقاتل والداعم، فكان الحل في الاتصال بالتيار السلفي المتحفظ الذي يرتبط بالمملكة السعودية عبر المشائخ التابعين لمدرسة أو منهج الإمام محمد بن عبدالوهاب، بحثاً عن الدعم المباشر وغير المباشر، وهذا ما كان وما حدث وما التقى مع رغبة السلطات الحاكمة في مملكة آل سعود في مواجهة تنظيم الإخوان، وقد وصل العداء بينهما مرحلة متقدمة اختلط فيها السياسي بالديني – أو على وجه الدقة تم فيها استخدام الديني في الصراع السياسي – وربط الدعم لمعركة الكرامة بتمكين التيار السلفي الجهادي في برقة ونظائره في باقي مناطق لـــيـبـيـــا من التواجد والتأثير والفعل العسكري والدعوي اليوم، وصولاً ربما وهذا طبيعي ومنطقي في سيرورة المناهج الآيديولوجية إلى السيطرة السلطوية القوية مستقبلاً {كلياً أو جزئياً} على منطقة استراتيجية في شمال أفريقيا وفي قلب وطن العرب، كانت فاطمية العقيدة ذات زمن، ثم أصبحت مالكية مع تنويع إباظي ليس ببعيد عن المالكية، وآن لها أن تصبح سلفيةً ثورية بالمفهوم الوهابي الرافض لمظاهر التدين الكاذب في نظره والقشور والصروح والقبور، وهي مدرسة يمكن فهمها والتفاهم معها لو اختارت أسلوب الحوار الهاديء والجدال بالتي هي أحسن، بدل أسلوب التغيير العنيف والخطاب الأصولي الحدي القطعي غير المتدرج ولا الصبور، ولا المؤمن بالتطور الحتمي، الذي كلما اقترب به المسلمون من التقدم والاستقرار المعرفي والحاكمي، كلما ابتعدوا عن المظاهر الشركية التي ترفضها الوهابية ويرفضها بالطبع كل ذي عقلٍ مستنير وكل ذي بنانٍ مستقيم، والتي صار لزاماً عليها أن تعترف بالديمقراطية باعتبارها بيعةً عصرية تنتفي معها الحاجة إلى المبايعة التقليدية لحكامٍ كأنهم الأقدار المُقدرة يتناسلون ويبقون لا يزولون ولا يزالون، مهما ظلموا ومهما ارتكبوا وتلك ظاهرة بدأ بنيانها يتساقط في بؤرتها النجدية وحاضنتها الحجازية العسيرية في كل جزيرة العرب ذاتها، فكيف يمكن فرضها على لـــيـبـيـــا المالكية الإباظية مذاهباً الحالمة بالدولة المدنية الحديثة اختياراً أباحت لأجلها محظور الثورة اضطراراً. 

وللأمانة وللتاريخ قدم السلفيون عبر تكويناتهم الخاصة التابعة للكرامة أو بعد دمجهم فيها تضحيات كبيرة في المواجهات الصعبة، لكن خطابهم كان يقوم على فكرة محاربة من أسماهم شيوخهم وخاصة الشيخ ربيع بن هادي المدخلى {الخوارج}، ولم نسمع منهم خطاب الوطن إلا في وصف المكان، ولا كلمة لـــيـبـيـــا إلا في توصيف الميدان، وصارت لهم قواعدهم وسجونهم ومساجدهم، التي أصبحت اليوم أهدافاً مباشرة للأعمال الإرهابية لأنها عديمة التحصين منعدمة المناعة، يسهل على المتطرفين الخصوم إيذاء خصومهم فيها، دون اعتبارٍ لأرواح الأبرياء الذين يسمح ويبيح التأويل الفكري للجهاديين التترس بهم، أي اتخاذهم متاريس للموت أو سواتر، ولهم في ذلك ضمن الفقه الجهادي المنحرف الواسع فقه جزئي إسمه فقه التترس.

بهذا ومع الاعتذار عن هذه الإطالة نصل للأسف إلى القول إن {داعش} الدولة الإسلامية في العراق والشام انتهت ولم يبق منها ومن شورى الثوار أو المجاهدين سوى بقايا خلايا نائمة يمكن أن تضرب وتؤثر، لكنها لن تملك ولن تحكم، تتواجه مع {دال} اختصار الدولة الإسلامية في لـــيـبـيـــا، التي لم تعلن رسمياً، لكننها تتجسد واقعياً للأسف، ولا يحتاج هذا القول إلى دليل أكبر وأوضح من متابعة ما يصدر عن دار الإفتاء التابعة شكلاً لحكومة الثني المؤقتة، والتابعة فعلاً لشيوخ السعودية المتطرفين في المقلب الآخر، من فتاوى متطرفة وتفسيرات حدية لمسائل نسبية ليست قطعية الثبوت ولا الدلالة ولا تقود إلى الشِرك، وزيارات العتيبي وغيره من وعاظ التطرف والإقصاء، واستقبالات القائد العام لهم والاستماع إليهم كـأنما هو مريد في حضرتهم، وتحديات الرائد محمود الورفلي لقيادته بتفيذه الإعدامات الميدانية خارج الأصول والقواعد القانونية العسكرية، وتقييد الحريات الشخصية التي تم إطلاقها أخيراً حتى في السعودية على يد نائب الملك الثوري المجدد الحقيقي محمد بن سلمان، ومنع وتحريم المظاهر الاحتفالية الشعبية والموروثات الاحتفائية غير الشركية بالطبع، وتكفير الصوفية، وغيرها من الممارسات القمعية التي تثبت تنامي سيطرة السلفية المسماة المدخلية {أنا شخصياً لا آخذ بهذا الوصف التمييزي}، والتي ضجت بها ومنها بــنــغــازي، وأضعفت كثيراً المجال المجتمعي المتضامن الذي تحتاجه القيادة العسكرية وتوابعها المدنية في هذه الحقبة الصراعية الخطيرة.

خـتـامـاً لا أحد يزايد على وطنيتي وانتمائي وحبي لــبـنـغــازي ولـــيـبـيـــا كلها، لكنني لا أقبل القوالب الجامدة، ولا التأويلات المتجمدة، ولا التفسيرات السطحية، وسأقول ما أراه دون إصرارٍ على رأيي الذي هو صواب يقبل الخطأ أو خطأ يقبل التصويب، وسبحان المنزه عن الأخطاء رب الأرض والسماء من كان عرشه على الماء.. والله سبحانه من وراء القصد.
ولـتـبـق لـــيـبـيـــا حـتـى زوال الـزمن.


الكاتب الليبي: محمد عمر بعيو

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.