قــراءةٌ طــويــلــة فــي يــومٍ لــيــبــي بــاريــســي قــصــيــر

[post-views]
45

بوابة ليبيا الاخباري

إعلان باريس ليس اتفاقاً واضحاً ودقيقاً بين أفرقاء متساويين في القوة على الأرض والتأثير على السياسة،بل هو في أفضل الأحوال إعلان نوايا يلتزم بموجبه الحاضرون الأربعة بما لا يملكون تنفيذه لكنهم يملكون تخريبه،ليسوا وحدهم بالطبع،بل تملك القدرة على التخريب أطرافٌ وأطياف صارت اليوم حائرةً بين فائض قوة مسلحة بلا قدرة،وفقر قوة سياسية بلا قيمة،وأعني بها المدن والبلدات والميليشيات المدججة بالسلاح،الفاقدة للتأثير الإيجابي في مسيرة السلام وسيرورة الإصلاح.

ولكي لا أدخل بكم وأدخل معكم في متاهة الألغاز الليبية،دعوني أضبط مسار هذا التحليل الذي طلبه أصدقاء كرام في مسارات ثلاث:-

::: الـمـسـار الأول/ طـبـيـعـة الـدعـوة والـداعـي:- 

لا يخفى على مراقب متابع حجم التورط الفرنسي في الكارثة الليبية منذ غارة الرافال على الرتل المتجه إلى بنغازي في 19 مارس 2011، وما أعقب سقوط النظام من تدخلات عشوائية توّجها المرتشي (ساركوزي) بدخوله بنغازي دخول الفاتحين صحبة شركاء الغزوة والغنيمة كامرون وأردوغان،قبل نحو شهرين من تمكن طائراته من قتل صاحب الخيمة المتداعية وسيد النظام الآفل، وما تبعه من تصارع على النفوذ بين الشركاء الذين أصبحوا فرقاء في الجنوب الليبي والعاصمة وبرقة،وإحساس فرنسا بالغبن نتيجة عدم تناسب عائداتها السياسية والاقتصادية من لـــيـبـيـــا بعد فبراير مع حجم استثمارها السياسي والعسكري في الحرب الأهلية الليبية سنة 2011،وحجم علاقاتها المتداخلة بمنظومة السلطة والميليشيات والمدن والقبائل.

ولذلك بقيت فرنسا جريحة الحالة الليبية حتى جاء الشاب النشط (ماكرون) الذي يمثل الجيل الجديد من الساسة الأوربيين،الحائرين بين قيود الهوية الوطنية التي تفرض التعاطي مع اليمين الشوفيني العنصري الشعبوي المتطرف،والمزايدة عليه كسباً للرأي العام،وبين ضغوط الأزمات الإقتصادية التي تقتضي الموازنة الصعبة بين الانكفاء الوطني والانفتاح المعولم،ليجد نفسه أمام استحقاقاتٍ أمنية واقتصادية ضاغطة وملفات مفتوحة على الفوضى الليبية،من شواطيء المتوسط حيث الهجرة غير الشرعية الورقة التي تلعب بها المخابرات الإيطالية ضد الشريك الأوروبي اللدود،إلى الصحراء الكبرى الليبية حيث النفوذ القديم في فزان المتجدد عن طريق زعماء أولاد سليمان وتحديداً ثلاثي منصور وغيث وعبدالمجيد سيف النصر،الذين تمكنوا وسيطروا بضع سنين بفعل تحالفات جهوية، قبل أن يهزمهم تحالف المنكسرين الليبيين مع التبو، وحيث الخطر المتعاظم للتطرف الإسلاموي الممتد عبر قوس الأخطار الواصل بين لـــيـبـيـــا ومالي ملامساً النيجر حيث الوجود العسكري الفرنسي المباشر.

وليجد الشاب الأربعيني نفسه يقود بلداً منحسر التأثير تدريجياً نتيجة ضعف القيادة السياسية وانكفاء السياسة الخارجية،وهو ما دعاه إلى مقارعة ترامب الأهوج بشأن ملف إيران النووي،حيث فشل في تحدي سيد البيت الأبيض،ليجد أمامه الملف الليبي الذي سبق واستثمر فيه قبل نحو عام، بجمعه السراج وحفتر تحت رعايته في لقاءٍ لم ينتج على الأرض شيئاً ذا قيمة،وليحاول استغلال انشغال إيطاليا بأزمتها الحكومية الحادة التي ستستغرق صيف 2018 كله وربما الخريف،وإهمال أميركا الملف الليبي لصالح الاهتمام بالملف الكوري الشمالي،ودخول بريطانيا حالة خمول خارجي ترتب عن خروجها من الاتحاد الأوربي،فيضرب ضربته الاستعراضية أمس الأول،والتي شجعه عليه ولا شك مواطنه (غسان سلامة) الذي لولا دعم الأليزيه ما كان في منصبه،وبلا استمرار هذا الدعم لن يكون مصيره بأفضل من مواطنه المتفسطط المتحذلق الدعي (طارق متري)،الذي اشترى من الساسة الليبيين التافهين أوهامهم بثمن بخس، قبل أن يبيع لـــيـبـيـــا إلى الدوحة بثمن أبخس.

كما أن الحضور المكثف لممثلي نحو عشرين دولة لقاء باريس الليبي يعكس الوزن الذي تتمتع به فرنسا في دول المحيط والجغرافي الليبي القريب والمحيط السياسي التأثيري البعيد،وإن كان حجم التمثيل المتدني للفرقاء الخارجيين الأساسيين وفي مقدمتهم مصر ترك أثراً سلبياً بعض الشيء على الكرنفال الفرنسي الكبير.  

وتظل عين ماكرون مثله في ذلك مثل كل الساسة الغربيين على الانتخابات القادمة في بلاده،والتي يحتاج فيها إلى نجاحات خارجية وإن شكلية وغير مؤكدة،تعوض وتغطي الإخفاقات الداخلية خاصة الإقتصادية المؤكدة.

::: الـمـسـار الـثـانـي / طـبـيـعـة الـمـدعـويـن الـلـيـبـيـيـن:-

بحساب الوجود الشكلي السابق واللاحق لاتفاق الصخيرات،وليس بحساب الشرعيات،كان من الطبيعي دعوة رؤساء المجالس الثلاث النواب والرئاسي والأعلى للدولة،عقيلة صالح وفائز السراج وخالد المشري،لكن دعوة المشير خليفة حفتر بدت وكأنها الحدث الرئيسي في اللقاء الباريسي،فهي المرة الأولى التي يُدعى فيها القائد العسكري الأكثر تأثير وشعبية في لـــيـبـيـــا {اعترف من اعترف وأنكر من أنكر} ضمن اجتماع دولي بهذا الحجم،والدعوةُ لم تأت لأنه القائد العام للجيش الليبي الذي لا يعترف به بعض ساسة وعسكريي الأمر الواقع في الغرب الليبي، ممن تتأسس مواقفهم المضادة للضابط السبتمبري الفبرايري على الغيرة والحسد وربما الحقد،أكثر مما تتأسس على الموضوعية والمؤسساتية والاحترافية.

وفرنسا التي استثمرت علناً وسراً في الرجل السبعيني أثناء حربه ضد التطرف في شرق البلاد،ربما تريد الاستثمار فيه سياسياً بعد أن يخلغ البزة العسكرية،ويغادر ميادين القتال، ويتجه إلى البدلة السياسية ويدخل ميدان الانتخابات،التي ستجري وبضغط دولي وفق صيغة دستورية لن تكون بالتأكيد المشروع المشوه للهيئة التي يرأسها الإخواني الطبرقي مراجع علي،والذي رحب أمس بغباء مخلوط بالمزايدة بما توهم أنه تأييد باريسي للإستفتاء على وثيقته الشوهاء.

أما (عقيلة صالح) المتلاعب المناور الذي صار لاعباً ضعيفاً في البلاد وشرقها بالذات فحضوره الشكلي مفيد له من زاويتين شخصيتين:-

-الأولى بقاؤه أحد شخوص السلطة المزعومة التي لا تملك ولا تحكم.

-الثانية كسر العقوبات الأوروبية المفروضة عليه مع الثنائي المنكسر نوري بوسهمين وخليفة الغويل. 

وحضور (فائز السراج) يعني التأكيد على استمرار شرعيته الشكلية المستمدة من الإعتراف الدولي لا من التأثير الداخلي،وهو وللإنصاف الشخصية الأقل إشكالية أو إثارة للمشاكل،ربما بحكم شخصيته الباهتة الانقيادية المطيعة،المبتعدة عن قدرات رجل الدولة قدر اقترابها من مدخن الأرجيلة المستمتع بدخانها أكثر من استمتاعه بدخان المعارك،وإن كان الرجل وبتأثيرٍ مباشر من مساعديه الانتهازيين ومستشاريه النفعيين بدأ يطلب أكثر مما هو فيه،وسيترشح للرئاسة،ليس لأنه أهلٌ للمسؤولية خاصة في هذه الظروف الصعبة حد الاستحالة،ولكن لأنه ذاق حلاوة السلطة والمال،مما لن يجعله يقبل أن يعود إلى زمن التجاهل والإهمال. 

ويبقى (خالد المشري) الرابع الذي لا ظل له على الأرض بمعزل عن جماعة الإخوان المسلمين وحزبها الدكاكيني العدالة والبناء،الذي اعتاد أن يبيع الأكاذيب بثمن بخس يدفعه من ماء الوجه ووجه الحياء،ويشترى المناصب دون ثمن،سوى خيانة الحلفاء وطعن الرفقاء،والذي حضر باريس ممثلاً لحزبه وليس للمجلس الأعلى للدولة الذي يعج بالوطنين لكنه يضج فقط بالمتأخونين.

::: المسار الثالث / مـاذا عـن لـــيـبـيـــا والــلــيــبــيــيــن:-

المنجز الوحيد والأساسي {إن جاز وصفه بالمنجز}،الذي خرج به اجتماع الثلاثاء الباريسي وإعلانه الذي لم يوقع عليه الفرقاء الليبيون،هو التأكيد على إجراء الانتخابات العامة في موعد محدد لإعادة إنتاج السلطة،وإنهاء الانقسام الرأسي والتشظي الأُفقي،والذي يجب أن تتكاتف حوله كل القوى الراغبة في الخروج من هذا الوضع الكارثي المتمادي،وما يجب أن لا تعارضه حتى قوى التشدد والتطرف السياسي والميليشياوي،لو كانت تمتلك الحد الأدنى من الضمير الوطني والتبصر والإدراك،ففي غياب القوة التي تحسم على كامل الأرض الليبية، وتفرض سيطرتها كقوة أمر واقع تحكم لفترة انتقالية قد تقصر أو تطول بحسب تنامي قوى الوعي الديمقراطي الوطني،لا خيار سوى الذهاب إلى الصناديق لإنتخاب السلطة الجديدة وفق أساس دستوري بدأ التجاذب حوله منذ أمس،والذي لن يخرج عن أحد خيارين:-

1- إما المشروع الناتج عن هيئة الستين،شريطة فتحه للتداول الشعبي الوطني بآلية معينة،وتعديله واقعياً بما يجعله أقرب للقبول الشعبي الواسع،خاصة في ما يتعلق بالدباجة المفقودة التي تؤكد على احترام كل التاريخ السياسي الليبي الحديث أو بالشكل الاتحادي للدولة الليبية الجديدة،فيدرالي موسع يضمن حكماً محلياً حقيقياً كاملاً لجميع وحداته ومكوناته،والذي لا خيار سواه في ظل استحالة القبول العودة لشكل وأداء الدولة المركزية البسيطة الظالمة أو شروط الترشح أو التفاصيل الأساسية المتعلقة بهياكل وصلاحيات السلطات وإزالة الأبواب والمواد الملغومة التي هي نتاج عقل الإسلام السياسي المتآمر،لا نتاج العقل الوطني الدستوري المتوازن.

2- أو الإبقاء على الإعلان الدستوري المؤقت بعد تعديله وترك مهمة صياغة الدستور الدائم للبلاد للسلطة المنتخبة،سواء كانت رئاسية أو برلمانية،أو الثانية وحدها إذا تعذر واستحال انتخاب رئيس للدولة في ظل شدة التنافر والاستقطاب الناجمين عن نحو مائة شهر من الحرب الأهلية المدمرة.

وتـبـقـى مسؤولية السواد الأعظم من الليبيين،أو الكثرة الساحقة عدداً المسحوقة وجوداً وقواها الوطنية غير العميلة للعواصم،ولا التابعة للأجندات،أن تستلم زمام المبادرة ليكون لها الحكم النهائي في بلادها ومصيرها،كما يتوجب على المخلصين في سلطات الأمر الواقع السياسية والأمنية والإدارية والإقتصادية،وفي المؤسسات الأساسية العمل بصدق وجدية لتخفيف معاناة الليبيين المعيشية الإقتصادية والأمنية،خلال الشهور الستة التي تسبق الذهاب إلى الانتخابات،وكذلك يتوجب على قوى السلاح الميليشياوية والنظامية إذا أرادت احترام الشعب الليبي وتقديم أوراق اعتمادها إلى الدولة القادمة،أن تخفف من الاحتقانات،وأن تبتعد عن النزاعات المسلحة،وأن ترسخ على الأقل هدنةً حقيقية تسبق بالضرورة حالة السلام الشامل والاستقرار الدائم،وهي قادمة لا محالة،فهذا الشقاء ليس قدراً،ولابد مهما طال الظلام وقست المقادير أن يطلع الفجر ويتبسم القدر.

ولــتــبــق لــــيــبــيــــا حــتــى زوال الــزمــن.


محمد بعيو

كاتب ليبي  

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.